محليمقالات

استغلال ثروة الغاز الطبيعي في ليبيا فرصة لم تفوت: د. عبد الحي بن عمران

بقلم// محمد أحمد

استغلال ثروة الغاز الطبيعي في ليبيا فرصة لم تفوت: د. عبد الحي بن عمران

في 1984 بدأنا العمل في قطاع النفط، في ركن بعيد في شارع جاكرتا بعيدا عم المقر الرئيسي للمؤسسة الوطنية للنفط (المبنى القديم) في عمارة (أليطاليا ومصر للطيران) كانت هناك شقتين رفع عليهما لافتة (المؤسسة الوطنية للنفط – مشروعات الغاز)، لم اكن اعمل فيها ولكنها شدت انتباهي دائما . 

صباحا بعد أن نركن سياراتنا في الشارع كثيرا ما كنا نصادف رجل قصير القامة نوعا ما حاد النظرات ومنشغل البال بشوشا أنيقا ببذلة وكرافتة دائما، كان زملائي الأسبق مني يتجهون إليه ليسلموا عليه ويتبادلون معه بعض القفشات الصباحية، وبمرور الوقت تعرفت على هذه الشخصية الاستثنائية فهو مهندس النفط الليبي د. عبد الحي بن عمران والحائز على الدكتوراه في الكيمياء ، وسبحان الله فالاسم ينطبق عليه فهو فعلا لا زال حيا بصيته وفعله وفعلا هو رائد في العمران.

عاش الرجل حياة حافلة مليئة بالتحدي وقد أدى فيها حسنا وكان مثالا لنا الجيل القادم بعده، في السبعينات واجه الرجل الشركات النفطية الأجنبية العاملة في البلد والتي كانت تستنزف الثروة النفطية وتفرط في الإنتاج بدون الأخذ بعوامل صيانة الآبار، وفي حملة إدارية كبيرة آنذاك بالرغم من معارضة سياسية استطاع ترجيع الإنتاج الليبي إلى حدوده المستدامة فأنخفض الإنتاج من 3 مليون برميل يوميا إلى أقل من 2 مليون برميل يوميا بعد بذل جهد كبير في دراسة الحقول الإنتاجية حقلا حقلا وقدرتها على الإنتاج بدون استنزافها. 

اليوم نقول رحم الله عبد الحي حيث كنا قد فقدنا تلك الحقول نتيجة الاستنزاف كما حدث في دول كثيرة حولنا بسبب طمع الشركات ومحاولتها الربح السريع بغض النظر عن صيانة الثروة.

بدأ د. عبد الحي تحديا جديدا لتعظيم استغلال الغاز الطبيعي.  الفكرة آنذاك كانت تحديا يصل في بعض الأحيان إلى الجنون. في تشابه كبير لمبدأ النهر الصناعي المائي كان د. عبد الحي يهدف إلى نهر غازي يمد به مدن الساحل الليبي بالغاز الطبيعي. 

في ذلك الوقت لم تكن الاقتصاديات تعمل لصالح الغاز الطبيعي حيث كانت وفرة المنتجات البترولية وسهولة نقلها وتوصيلها تعد ميزة استراتيجية هامة وتزيد في تكلفة استعمال الغاز الطبيعي من ناحية الاستثمار.  

التحدي الآخر هو أن الشركات النفطية الأجنبية الكبرى العاملة في ليبيا لم تكن مهتمة على الاطلاق بالاستثمار في تجميع الغاز من الحقول النفطية ومن ثم فصله وتصديره.  في غياب الاستثمار الأجنبي كان على د. عبد الحي إقناع السلطات التنفيذية بسلامة هذا التوجه بناء على مفهومين اقتصاديين. الأول أن استغلال الغاز خصوصا في المصانع الكبرى على الخط الساحلي ومحطات توليد الكهرباء سيحرر كميات أكبر من النفط الأغلى ثمنا وهو ما سيزيد في دخل الدولة الليبية. 

المفهوم الثاني أن الغاز الطبيعي هو بديل أنظف للطاقة وسيقلل من التلوث الذي يتسبب به استهلاك المنتجات السائلة مثل الديزل وزيت الوقود الثقيل.

وفعلا بدأ بناء المشروع وتكامل مع نهاية الثمانينات وبدأت ليبيا في مرحلة جديدة في التحول إلى الغاز الطبيعي في صناعات كبرى مثل مصانع الحديد والصلب ومصانع الاسمنت وكذلك تحولت الكثير من محطات توليد الكهرباء إلى الغاز الطبيعي بدلا من الديزل أو زيت الوقود الثقيل. 

يجدر بالذكر أن معظم مشروعات الغاز الطبيعي كانت تعتمد على الامداد من حقول المنطقة الشرقية قبل الاكتشافات الغازية في غرب ليبيا في حقل الوفاء وبحر السلام كحقول غازية منفردة وأقيم عليها مشروع غاز غرب ليبيا والذي تم تخصيص معظم انتاجه للتصدير إلى إيطاليا عبر خط قرين ستريم بالمشاركة مع شركة إيني الايطالية.  

استطاعت ليبيا بفضل مشروعات الغاز تسجيل معدلات عالية من الاستغلال قياسا بمستوى الاستعمال الفردي للغاز الطبيعي مقارنة بدول أخرى في المنطقة تمتلك نفس الصفات الجغرافية والديموغرافية.  فكان نصيب الفرد في ليبيا مثلا في سنة 2021 من استعمال الغاز الطبيعي 1,193 متر مكعب بينما كان في مصر 598 متر مكعب والجزائر 1,081 متر مكعب ونيجيريا 63 متر مكعب والعراق 449 متر مكعب.

وهنا يثور جدل كبير اليوم حول دعم الغاز وكيف أن هذا الدعم يمكن أن يعتبر هدر اقتصادي للثروة.  في الحقيقة فأن دعم الغاز هو سياسة عالمية مشتركة بين كل الدول بغض النظر عن توجهها الايدلوجي بين الرأسمالية والاشتراكية، فهناك دعم مباشر تقوم الدولة بدفعه للمنتج أو المورد نيابة عن المستهلك النهائي وهو قليل وهناك دعم آخر يتمثل في منع أو الحد من تصدير الغاز الطبيعي واجبار المنتج على بيعه في السوق المحلي أحيانا أقل من تكلفة انتاجه.

هذا الدعم موجود في منتجين رئيسيين للغاز الطبيعي مثل استراليا، اندونيسيا، إيران، روسيا، مصر، الجزائر، دول أمريكا اللاتينية. 

وبغض النظر عن كون هذا الدعم أداة أمن قومي ألا أنه في نفس الوقت كان أداة تجارية بامتياز حين كان يوفر للدول المنتجة المنتجات النفطية الأغلى ثمنا لتصديرها بينما تقوم باستهلاك الغاز الأرخص ثمنا، وهي نفس الحجة التي كان د. عبد الحي دائم التكرار لها.

وواقعيا فأن ليبيا حققت ما لا يقل عن 50 مليار دولار من سنة 1990 حتى الآن تراكميا نتيجة استهلاك الغاز الطبيعي وذلك بطرح قيمة ما تستعمله من غاز بسعر السوق العالمي من قيمة الصادرات التي حققتها من تصدير النفط السائل الفائض بفعل احلال الغاز محله.  هذا يغطي وربما أكثر قيمة الدعم المخصص لاستهلاك الغاز. 

ووفقا لإحصائيات منتدى الدول المصدرة للغاز الطبيعي فأن الاحتياطي المؤكد من الغاز الطبيعي في ليبيا يصل إلى 1,505 مليار متر مكعب من الغاز وهو احتياط متوسط يجب العمل على زيادته، وانتجت ليبيا منه في سنة 2020 معدل 25 مليار متر مكعب أي ما يغطي 60 سنة بالإنتاج الحالي، وتم تصدير 5 مليار متر مكعب في نفس السنة. 

نتيجة تغيير العلاقة بين سعر النفط وسعر الغاز الطبيعي هذه السنة حيث وصل سعر الغاز الطبيعي في السوق الفورية إلى ما يعادل 300 دولار/برميل مكافئ نفط ما يعني ثلاث أضعاف سعر النفط، بينما كان تاريخيا لا يتجاوز 15% من سعر البرميل فهناك الكثير من المعطيات قد تغيرت.  فمثلا منطقية استعمال الغاز الطبيعي بديلا عن النفط لتحقيق وفر اقتصادي أصبحت اليوم محل شك، كذلك إمكانية جذب استثمارات اجنبية للمساهمة في بنية تحتية لإنتاج الغاز وتطوير احتياطاته خصوصا في البحر أصبحت أكثر واقعية. 

هناك محاذير يجب الاخذ بها، فالسعر الفوري للغاز الذي أشرت له أعلاه لا يمثل سوى 20% من التجارة العالمية في الغاز الطبيعي ويتركز أساسا في أوربا، بينما معظم الغاز الطبيعي يتم تداوله عبر عقود طويلة المدى سعر الغاز فيها لا يزال مساويا لمعدل 15% من سعر النفط أو اقل في احيان كثيرة.  لذا فأن توهم الحصول على هذا السعر لأي تعاملات تجارية تعاقدية للغاز هو أمر يحيطه الكثير من الشكوك.  الناحية الثانية فأن معظم الاستثمارات الأجنبية في قطاع الغاز تتجه حصريا إلى المناطق البحرية وهي كثيرة وتتجنب المناطق البرية نتيجة للتوترات السياسية التي تهدد مثل هذه الاستثمارات.  صحيح أن ليبيا لديها مؤملات بحرية كثيرة وهي جاذبة للاستثمار الأجنبي، ولكن علينا أن ندرك أن هذه الاستثمارات سيتم توجيهها لزيادة قدرة التصدير وليس لزيادة قدرة الاستهلاك المحلي.

في وقت مثل هذا نفتقد إلى رؤية شخص مثل د. عبد الحي بن عمران جازاه الله عنا كل خير.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى