
فتحي الشبلي يكتب: النهر الصناعي أعظم مشروع هندسي مائي نجح في إنقاذ الملايين
قال فتحي عمر الشبلي، إن النهر الصناعي العظيم، أعظم مشروع هندسي مائي في أفريقيا والشرق الأوسط، نجح في إنقاذ الملايين بتكلفة أقل بعشرات المرات من أي بديل آخر، لكنه عانى من سوء الإدارة السياسية بعد 2011. وتابع أن الحديث عنه كمؤامرة أو كارثة ليس إلا تزويرًا للتاريخ وبيعًا للوهم. الجريمة ليست في جرّ الماء من الجنوب إلى الشمال، بل في جرّ الحقيقة من العلم إلى الأيديولوجيا.
وجاء نص المقال “النهر الصناعي.. الحقيقة التي تفند الأكاذيب” كالتالي:-
كتب أحدهم أن النهر الصناعي “جريمة استراتيجية” و”الخطيئة الثامنة”، وكأن ليبيا كانت تعوم على ينابيع نهرية سطحية وقرر القذافي أن يدفنها عمدًا في الرمال! والحقيقة أن من يردد هذه الشعارات لا يقدّم سوى كلمات منفوخة تخلو من أبسط أساس علمي. لنضع الأرقام على الطاولة ونكشف الوهم من الحقيقة. المياه ليست “أحفورية ميّتة”، فالكاتب صوّر مياه النهر كأنها قارورة صغيرة على وشك النفاد، لكن الواقع مختلف، فالمخزون الجوفي الليبي في الحوض النوبي يقدّر بأكثر من خمسة وثلاثين ألف مليار متر مكعب وفق دراسات اليونسكو (SASS 2006)، وما يُسحب سنويًا لا يتجاوز ستة مليارات متر مكعب، أي أقل من 1% خلال 30 عامًا من التشغيل، وهناك تغذية طبيعية من الأمطار جنوب الكفرة وواحات تشاد والسودان، أي أن المورد ليس ميتًا تمامًا كما يحلو لهم التهويل. فهل هذه جريمة؟ أم أن الجريمة أن يُكتب مقال يبيع الوهم للناس بلا رقم واحد صحيح؟
أما الجنوب فليس خزانًا فارغًا كما ادعى الكاتب، إذ بكى على الجنوب وكأنه ظل عطشانًا يشاهد الماء يُسحب أمامه، بينما الحقيقة أن مشاريع تازربو والكفرة الزراعية تستفيد يوميًا من نصف مليون متر مكعب لري آلاف الهكتارات، كما أن البنية التحتية من آبار ومحطات وكهرباء وطرق أُنشئت في الجنوب تحديدًا بسبب النهر، ولو لم يكن الجنوب مصدر الماء، هل كان سيحصل أصلًا على تلك المشاريع؟ إذن تصوير الجنوب كضحية بينما هو شريك ومستفيد لا يعدو كونه خطابًا دراميًا يصلح لمسلسل تركي لا لمقال علمي.
أما عن المخاطر الجيولوجية فهي أسطوانة مشروخة، قالوا إن ليبيا ستنهار أرضيًا مثل المكسيك وإيران، لكن أين الدليل؟ تلك الدول تسحب من أعماق سطحية بين 100 و300 متر بينما نحن نسحب من أعماق تتراوح بين 400 و700 متر من خزانات صخرية صلبة، وتقرير المركز الوطني للمياه سنة 2010 لم يسجل أي حالة هبوط أرضي مرتبطة بمشروع النهر. فإلى من يهوى التخويف: ليبيا لم تغرق، ولم تتشقق الأرض تحت بيوتنا، ولن يحدث ذلك.
أما التحلية فليست الحل السحري كما يُروّج، صحيح أنها اليوم خيار واقعي، لكن الأرقام لا تكذب: تكلفة المتر المكعب من التحلية في التسعينات كانت بين 2 و3 دولار، واليوم بين 0.5 و1 دولار، بينما تكلفة المتر من مياه النهر الصناعي لا تتجاوز 0.10 دولار، فقط طرابلس تحتاج 1.2 مليون متر مكعب يوميًا، والفارق يعادل 300 مليون دولار سنويًا. فهل كان الليبيون في التسعينات سيدفعون فاتورة ماء تعادل ميزانية الصحة والتعليم معًا؟ أم أن “البديل” مجرد فكرة رومانسية في عقل الكاتب؟
والحقيقة أن الدعاية شيء والإنجاز شيء آخر، فصحيح أن القذافي باع المشروع كمعجزة ثامنة، لكن النتائج الواقعية هي أن أكثر من 70% من احتياجات ليبيا المائية غطاها النهر منذ 1991، وأن مدنًا مثل طرابلس وبنغازي وسرت نجت من العطش بفضله، وأنه دعم الزراعة في سهل الجفارة والسرير وزاد إنتاج الحبوب والخضروات. فليسمّها من يشاء دعاية، لكن ملايين الليبيين شربوا فعليًا من هذه “الدعاية“.
أما البدائل النظرية مثل إعادة استخدام المياه المعالجة أو الطاقة الشمسية فهي لم تكن واقعية حينها، ليبيا حتى اليوم لم تتمكن من إعادة استخدام أكثر من 3% من المياه المعالجة، ومشاريع الطاقة الشمسية بدأت فعليًا بعد 2015، بينما النهر بدأ منذ 1984. المشكلة لم تكن في النهر بل في غياب سياسات موازية تُبقيه جزءًا من حل شامل.
وأضاف فتحي الشبلي مقاله:”لماذا إذن يُصر البعض على مهاجمة المشروع؟ لأنهم يتعاملون مع التاريخ بعقلية سياسية ضيقة: كل ما ارتبط بالقذافي يجب أن يُهاجم ولو كان شمسًا في كبد السماء، ولأنهم يجهلون أو يتجاهلون حقيقة أن الماء في ليبيا ليس ترفًا بل حياة أو موت، ومن السهل جدًا بيع الشعارات في مقالات بينما الناس على الأرض عطشى، ولأن جلد الذات عند بعض “النخب” أصبح هواية، يكتبون وكأننا دولة أوروبية لديها أنهار جارية ثم أهدرناها، بينما نحن بلد صحراوي قاحل بلا مصدر مياه سطحي واحد”.
واستكمل مقاله: النهر ليس النهاية بل البداية، لا أحد يقول إنه يكفي للأبد، لكنه كان الحل الاستراتيجي الوحيد الممكن في الثمانينات، والمطلوب اليوم ليس جلد الماضي بل إدارة رشيدة للحاضر: ترشيد الاستهلاك، معالجة مياه الصرف، الاستثمار في التحلية بالطاقة الشمسية، وتنمية الجنوب بجوار النهر لا ضده.
أما الأزمة الحالية فسببها الانقسام السياسي والأمني الذي جعل محطات الضخ تتعرض للتخريب والابتزاز المسلح، وغياب الصيانة الدورية بعد 2011 الذي أدى إلى تكرار الأعطال وانقطاع المياه عن مدن كبرى، فالمشكلة لم تكن في النهر ولا في الصخور ولا في الخزانات، بل فينا نحن وفي إدارتنا.
النهر الصناعي لم يكن “المعجزة الثامنة” كما بشّر به النظام السابق، ولا هو “الخطيئة الثامنة” كما يصوره بعض الكتّاب اليوم، إنه ببساطة أعظم مشروع هندسي مائي في أفريقيا والشرق الأوسط، نجح في إنقاذ الملايين بتكلفة أقل بعشرات المرات من أي بديل آخر، لكنه عانى من سوء الإدارة السياسية بعد 2011. الحديث عنه كمؤامرة أو كارثة ليس إلا تزويرًا للتاريخ وبيعًا للوهم. الجريمة ليست في جرّ الماء من الجنوب إلى الشمال، بل في جرّ الحقيقة من العلم إلى الأيديولوجيا.
وباللغة الساخرة نقول: من يريد أن يلعن النهر الصناعي فليكن صادقًا وليشرب ماء البحر بدلاً منه، أما نحن فنشرب من هذا “الإنجاز الملعون” منذ 30 عامًا ولم نجد بديلًا أرخص ولا أفضل. أما الأكاذيب، فتبقى مثل السراب في الصحراء: تلمع من بعيد، لكن عند الاقتراب منها لا تجد سوى الرمل.



