محلي

الجماهيرية تعيد نشر محاضرة للدكتور سيف الإسلام ألقاها في الجامعة الأمريكية بالقاهرة في مايو / 2010

الجماهيرية تعيد نشر محاضرة للدكتور سيف الإسلام ألقاها في الجامعة الأمريكية بالقاهرة في مايو / 2010

نص محاضرة سيف الإسلام القذافي حول (ليبيا.. الماضي والحاضر والمستقبل)

“السيدات والسادة ..

أتشرف بمخاطبتكم اليوم هنا، بالجامعة الأمريكية في القاهرة، خلال الثلاثين دقيقة التالية أود أن أطرح رؤيتي للديمقراطية بالمشاركة في ليبيا.

أولاً: سأشير إلى التحديات الرئيسة التي نواجهها في عملية الإصلاح بليبيا، للانتقال من “مجتمع مُدبّر” إلى “مجتمع حر” ومن اقتصاد صناعي إلى اقتصاد حقيقي، وسأتناول السياسات والمؤسسات النوعية التي أنادي بها في ليبيا الغد.

أتوقع أن يكون رد فعل بعضكم متشككا في أني أقدم رؤية لديموقراطية بالمشاركة في منطقة من العالم، كانت دائما مقاوِمة للديموقراطية أصلا، على الأقل على النموذج الديموقراطي الغربي المؤسس على الأحزاب ومبدأ التمثيل.

بحث الأكاديميون عن تفسير لعدم وجود ديموقراطيات عربية بصفة عامة، وكانوا – في كثير من الأحيان – يشيرون إلى الثقافة الإسلامية أو لمستويات التنمية الاقتصادية، أنا على يقين بأن المشكلة ليست في الإسلام الذي يحتوي على تاريخ طويل من التسامح والتشاور مع الشعب، ونماء اقتصادي وعلمي، واستطلاعات الرأي الأخيرة في المنطقة أظهرت بوضوح أن الإسلام ليس متعارضاً مع الديموقراطية، ولا ينهى عن نشوء توجهات ومواقف إيجابية نحو الديموقراطية.

لدينا إشكالية كبرى متمثلة في الإرث الاستعماري، وواقع الحال أن الدول العربية لديها نسبياً حدود جديدة، تأسست عندما قام الأوروبيون بإنشاء المستعمرات بعد انهيار الامبراطورية العثمانية، ومعظم الدول العربية ليس لديها مجتمعات راسخة أو هويات وطنية، وهي التي تعد عادة أسساً مهمة لقواعد ديموقراطية ناجحة، لدينا هوية عربية بالمفهوم الواسع.

في ليبيا لم يكن لدينا تقليد بثقافة مدنية، تستند على المشاركة في الشؤون العامة، أو ثقافة سياسية مؤسسة على الحقوق والواجبات، وتنص على الالتزام بالصالح العام، عوضا عن ذلك كان لدينا إرثٌ تاريخي من عدم الثقة في الإدارة المركزية التي تتولاها قوى استعمارية.

الرقعة الجغرافية لليبيا الحديثة كانت تحت الحكم التركي منذ القرن السادس عشر إلى قبيل الحرب العالمية الأولى.

في سنة 1922 عندما تولى الحزب الفاشيستي الحكم في روما، اُعتمدت سياسة شرسة لتركيع الليبيين بالقوة، وعند الاستقلال في سنة 1952 كان الحكم في ليبيا بيدي ملك يستمد شرعيته من موقعه كرئيس لطريقة صوفية دينية، وبقاعدة تأييد من المجموعات القبلية الرئيسة، قام الملك بحظر الأحزاب السياسية، واستمر ذلك إلى اليوم، بعد ذلك سادت الأفكار الثورية، وما صاحبها من تلقينها مذهبياً، واستمرت الأوضاع لأربعين سنة، كل هذه الوقائع تجعل أمر إنشاء ديموقراطية حديثة أكثر صعوبة.

عامل آخر مهم بالخصوص هو الواقع الجيوسياسي، وهو بالغ الأهمية، من حيث إنه يجعل الديموقراطية صعبة المنال، نشير إلى النزاعات ما بين الدول، النزاع العربي الإسرائيلي، من حيث إنها عوامل تستخدم لترسيخ البنية السلطوية الأمنية والسياسية، الدول العربية تنفق على الأمن نسبة من إجمالي الدخل المحلي العام تعادل ثلاثة أضعاف معدل نسبة الإنفاق المماثلة في دول حلف الأطلسي.

ولكن هناك أيضاً سبب آخر، كان له تأثير شديد هو إشكالية  البنية الاقتصادية “لعنة النفط” .

في بلد نفطي .. الدولة لديها السيولة المالية من الثروة التي توفرها الموارد الطبيعية، ومن ثم فإن الدولة لا تحتاج إلى السعي في سبيل التوصل إلى شكل من أشكال “العقد الاجتماعي” مع شعبها، ينص على فرض جباية ضرائب، مقابل الصوت في الكيفية التي تتم بها الحوكمة، ولا تحتاج كذلك إلى قطاع سوقي يتمتع بحيوية في سبيل خلق رخاء.

 من ست عشرة دولة عربية التي توصف بأنها دول ريعية، لدينا إحدى عشرة دولة تعاني من مشاكل ما يسمى بلعنة النفط، من ضمن ثلاث وعشرين دولة بالعالم التي يشكل النفط والغاز معظم مداخيلها العائدة من الصادرات، لا توجد دولة واحدة تعد دولة ديموقراطية، وفقا لمعايير “فريدم هاوس” – مؤسسة بيت الحرية (غير حكومية)- أو غيرها من وسائل القياس والتقييم المقبولة.

الدول الغنية بالنفط لديها بيروقراطية عالية المركزية؛ لأنها هي المُستلم والموزّع الوحيد لثروة النفط، فالمواطنون لديهم ما يحثهم على الاستكانة السلبية وعلى طلب حصة من الكعكة، من خلال الاستعداد لدعم من يوزع ثروة الدولة أو رشوته أو الاقتراب منه.

المجتمع المدني ضعيف، وتحدد الدولة مساره، لا يوجد سوى القليل من المبادرين النشطين -القطاع الخاص- معظم الناس يعملون أو يتعاملون مع “بيزنس” الخدمات للدولة أو قطاعها النفطي، أو بكيفية أخرى يكسبون عن طريق العقود الحكومية، أفضل حملة المهارات الشابة وأكثرهم كفاءة يعملون عادة كممثلين لشركات النفط الأجنبية.

دون شك نواجه تحديات مضنية؛ ومع ذلك يجب علينا أن نعثر على طريقة للسير قدماً في سبيل تحقيق مجتمع ديموقراطي حقيقي. أنا أعتقد أن على الديموقراطية أن توسّع إلى الحد الأقصى مبدأ المشاركة السياسية الشعبية.

الديموقراطية، بصورتها المثلي، عليها أن تحقق ما تعنيه حرفيا، أي الحكم بواسطة الشعب، قد يكون من الصعب بناء الديموقراطية في هذا الجزء من العالم؛ ولكن هنالك أيضا مشاكل عديدة وجدية تواجه الديموقراطية في الدول الغربية.

الديموقراطيات الحديثة المؤسسة على الأحزاب، ومبدأ التمثيل، فشلت في تحقيق الهدف، مثلها مثل المشاركة والحكم بواسطة الشعب.

 في الولايات المتحدة، وتحت نظامها القائل بالانتخاب التعددي، “الفائز” في الانتخابات يحوز كل شيء. مجلس النواب ينتخب بتصويت من خمس عدد الناخبين المؤهلين. في السنوات التي يسجل بها رقم قياسي من المشاركة في الانتخابات الرئاسية (مثل 1964 و 2008) كانت المشاركة لا تكاد تصل إلى 60% من الناخبين المؤهلين.

هذا يعني أن أربعين بالمئة لم يشاركوا إطلاقا، ونصف الذين يشاركون يكونون عادة من أنصار المرشح الخاسر، ما يؤدي إلى أن  25 إلى 30% من المؤهلين للانتخاب يكون لديهم ممثل قاموا بانتخابه فعلا.

نرى بالتالي كيف أن الديموقراطية المؤسسة على الانتخاب التعددي والأحزاب تأخذنا بعيداً عن تحقيق قاعدة “الحكم بواسطة الشعب”، وتعطينا قاعدة الحكم بواسطة الطوائف السياسية والمصالح الخاصة.

في الشهر الماضي نشر مركز “بيو PEW” للأبحاث تقريراً مفاده أن 76% من الأمريكيين يعتقدون أن المسؤولين المنتخبين في واشنطن يهتمون فقط بوظيفتهم، ويقعون تحت تأثير المصالح الخاصة، ولا رغبة لديهم في التوصل لحلول توافقية، وأنهم ينفقون الكثير من الأموال، ولا يعون ما يدور حولهم.

الأنظمة الديموقراطية التمثيلية الأخرى ذات الأنظمة الانتخابية المختلفة، لديها مشاكل جدية أيضا، فالانتخاب النسبي يمنح المواطنين تأثيراً مباشراً أكثر على السلطة السياسية، حيث إنه يزيد من عدد الأصوات الفعلية وعدد الفائزين، ولكن الانتخاب بالنظام متعدد الأحزاب على أساس النسبية لديه مشاكله الخاصة أيضا، فهو يقود إلى تحالفات غير مستقرة، وغياب الحكومات المشكلة على قاعدة الأغلبية.

خلال العقود الثلاثة الماضية قامت ليبيا بتجربة اجتماعية في محاولة لخلق البديل عن الديموقراطية المؤسسة على تعدد الأحزاب والانتخاب التمثيلي، وهي ديموقراطية مباشرة، بالروح التي سادت في أثينا القديمة، وهكذا تبدو ليبيا- نظريا- أكثر الدول ديموقراطية في العالم، لأن لدينا نظاماً وطنياً مؤسساً على المشاركة الشعبية، على نمط اجتماعات سكان المدينة أو (تاون ميتينغ Town Meeting) وهي اجتماعات تدعى بالمؤتمرات الشعبية الأساسية.

ولكن على بساط الواقع، التجربة فشلت في الوصول إلى النتيجة المثالية المتوخاة، ويمكن إرجاع ذلك بصفة كبيرة إلى التحديات الصعبة التي لاحظتها منذ البداية.

 كان علينا المحاولة، لكي نبني ثقافة مدنية للمشاركة الشعبية، في دولة تقع بمنطقة تعيش فترة ما بعد العصر الاستعماري، وتنتشر فيها النزاعات الجيوسياسية وتعاني من “لعنة النفط”.

وكانت جهود جادة -غير رشيدة- في ليبيا، مبتغاها ترسيخ الديموقراطية المباشرة والعدل الاجتماعي، ومن ذلك كان الحلم النبيل بتمكين العمال، وجعلهم شركاء لا أجراء، إلا أن النتيجة تمثلت في إلغاء الملكية الخاصة، وهو ما كان في واقع الحال بمثابة نظام الدولة الاشتراكي على النمط السوفييتي.

الكتاب الأخضر- وهو مذهبنا السياسي والاقتصادي- لم يكن مؤيداً لاحتكار ملكية أدوات الإنتاج من قبل أية مجموعة، أو طبقة، أو حتى الدولة بحد ذاتها، ولكن الدولة أصبحت بالفعل هي المالكة للمؤسسات الإقتصادية على وجه الاحتكار، والنتيجة أصبح لدينا اقتصاد اصطناعي، يمر بفترات نقص في السلع وأسعار غير منطقية ومنتجات ذات نوعية متدنية، الضحية الأولى كانت الأمة بكاملها.

لاحظت أيضا طموحاً نبيلاً آخر، وإن حمل إحباطاته أيضا، ألا وهو إرساء نظام الديموقراطية المباشرة، ولكن صار العديد من الناس يعانون من مشاكل حادة:

أولاً: قمنا ببناء البنية الشكلية لديموقراطية مباشرة، ولكننا في واقع الحال المُنَفَّذ، صار لدينا “ديموقراطية مُـدارة” بتدخلات فوقية من العديد من المؤسسات، وكذلك القيادة.

ثانيا: لم يكن لدينا إعلام مستقل.

ثالثا: غياب المجتمع المدني.

رابعا: ساد لدينا مبدأ الإقصاء، فيما يتعلق بالليبيين المعارضين الذين يحملون معتقدات سياسية مختلفة.

السؤال الذي أطرحه هو: كيف يكون لنا أن نصبح نبلاء ونظل من ذوي الفعالية في الوقت نفسه ؟

فيما يتعلق بالسياسة الاجتماعية والاقتصادية، كنت داعماً لإجراءات مؤسسة على مقاربة “المقدِرة” التي وضعها المفكر “أمارتيا سين”، وهي تركز على رفع حريات الأفراد، في سبيل أن يسعوا إلى قيمهم، وليضمنوا الفرصة في المشاركة بالمجتمع والحياة السياسية.

 لقد قمنا بتنفيذ ذلك عن طريق إنشاء سياسة دعم اجتماعي قائم على “أصول مالية” – أسهم في مؤسسات – متخذين المبدأ القائل بأن قضايا عدم المساواة الاجتماعية يجب أن تعالج من خلال تمكين المواطنين برأسمال ومهارات وتعليم.

لقد كنت أدعو إلى مجموعة من الإجراءات، صممت لكي ننتقل من حالة “الدولة الريعية” إلى دولة بناء الإمكانيات، على أساس الانتقال بإجراءات النقل من “العام” إلى “الخاص”، وهي تهدف إلى نقل الثروة من الدولة إلى أيدي الناس الخاصة، حتى نستطيع أن نمكن الأفراد، ولكن ليس على حساب غيرهم.

أولاً.. قمت بدعم إنشاء صندوق التنمية الاجتماعية والاقتصادية (الليبي) الذي اتخذ خطوة أولى بتخفيف حدة الفقر، حيث قام بتوزيع أصول في مؤسسات الدولة إلى 188,000 من أفقر العائلات في ليبيا، مستهدفاً خلق توزيع ثروة ابتدائي عند إطلاق مشروع الإصلاح.

نقوم بتوزيع ما قيمته عشرة مليارات دولار من الأسهم (ذات تصنيف – ثلاثةA) من أفضل المؤسسات الليبية، بعد القيام بإعادة الهيكلة فيها، هذا سيكون من شأنه خلق “موضع أصلي جديد” حسب مصطلح المفكر “جون رولز”.

إن الذين تم دعمهم عن طريق صندوق الإنماء الاقتصادي والاجتماعي استلموا أسهما قيمتها من 25 إلى 40 ألف دولار، وفقا لحجم عائلاتهم، هذه الأصول مدونة في قائمة السوق المالي المحلي، وقيمتها تزيد اطرادا بمعدل يبلغ 44%، والعائلات تستلم دخلاً منتظماً من أسهمها كأرباح، وتستطيع أيضا أن تستعمل الأصول كضمانات للحصول على رأسمال لاستخدامه في أعمالها، أو بمثابة ضمان عقاري رهني لأول مسكن، المبدأ الذي نسترشد به هو النقل من “العام” إلى “الخاص”، وبالطريقة التي تبني المقدِرات. الصندوق في ذاته هو مجرد أداة توصيل مؤقتة، بغرض التحويل المتصاعد لثروة الدولة إلى الشعب، وسيختفي عندما يتم تحويل كافة الأصول.

من بداية السنة القادمة، كافة العائلات تستطيع أن تقرر بيع أو إدارة هذه الأصول في الأسواق المالية كما ترغب، وكإجراء آخر لاستحداث توزيع ابتدائي عادل للثروة عند بداية الإصلاح، نحن نعمل على تعديل ما لم يكن عادلا، من خلال نقل آخر من “العام” إلى “الخاص”، نحول المليارات من الدولارات نقداً وأسهماً لتعويض الليبين الذين تمت مصادرة أملاكهم من قبل الدولة بالثمانينيات.

مقاربة أخرى لبناء المقدِرات تتمثل في  إنشاء حسابات توفير للعائلات الليبية جميعا، وستقوم الدولة بإيداعات (من المال العام) تعادل دولاراً بدولار، إلى حسابات توفير للمواطنين، هذه الحسابات لن يسمح باستخدامها للاستهلاك الفوري، ولكن فقط لأغراض معينة مثل التعليم والتأمين الصحي أو قسط الرهن العقاري، أو غير ذلك من الأغراض النوعية التي يكون من شأنها زيادة مقدرتهم على النجاح.

قمنا أيضا بدعم سياسيات محددة أخرى، مثل توفير حد أدني من الإعانة الاجتماعية تقدم للمعوزين، مثل العاطلين أو المعاقين أو الأمهات العازبات.

وهكذا نعمل حثيثا على تمكين الشعب، ولكن ليس على حساب الآخرين، لإعانة الاجتماعية تقدم للمعوزين، مثل العاطلين أو المعاقين أو الأمهات العازبات لإعانة الاجتماعية تقدم للمعوزين، مثل العاطلين أو المعاقين أو الأمهات العازبات، لم أدعم أبدا الضرائب التصاعدية أو أي إجراء آخر يكون من شأنه تحويل الثروة الخاصة إلى ملكية الدولة لإعانة الاجتماعية تقدم للمعوزين، مثل العاطلين أو المعاقين أو الأمهات العازبات،  هذه السنة قمنا باعتماد قانون جديد يؤسس ضريبة بمعدل موحد في سبيل دعم الحوافز الفردية في طريق الإنتاجية، ضريبة الدخل الشخصية وضريبة مشاريع الأعمال الصغرى، خفضت من الحد الأقصى، أي 44% إلى معدل موحد بسنة 15%، قمنا كذلك بتخفيض ضريبة الشركات من حد أقصى يصل إلى 44% إلى معدل موحد بنسة 20%، الرسوم (الاستهلاكية) ستكون موحدة وشاملة لجميع السلع والخدمات بمعدل 4%.

وفي سبيل بناء المقدِرات من خلال التعليم، لدينا برنامج لتوزيع “قسائم” مباشرة للمواطنين تستعمل لتسديد رسوم الدراسة الأساسية والثانوية، وهذا من شأنه أن يوسع إلى الحد الأقصى الخيارات الفردية، ومن جهة أخرى لتقليص دور الدولة في قطاع الخدمات العامة للحد الأدنى.

لذلك أدعم هذه السياسات لبناء المقدِرات الفردية وسط جميع المواطنين؛ ولكننا لن ننجح إلا إذا قمنا بتغيير بنية اقتصادنا المعتمد أساساً على النفط، والانتقال إلى اقتصاد متنوع وتنافسي وصحي. هذا سيكون من شأنه أن يخلق أساسات هيكلية ملائمة لديموقراطية أصيلة، تتسم بالمشاركة، وكذلك مبادرات بأنشطة أصيلة.

النفط والغاز ما زال يحتل نسبة 75% من إجمالي الدخل العام المحلي، ليبيا تحوز أكبر احتياطات نفطية في أفريقيا، ونتوقع قريبا أن نصبح ضمن أكبر عشرة مصدرين للنفط في العالم، نحن نطمح لتحقيق الفعالية في قطاع النفط والغاز، ولكن في نفس الوقت نهدف إلى تنويع اقتصادنا، من خلال بناء تنافسية في قطاعات جديدة، مثل السياحة.

في سبيل تحقيق دخل متدفق ومستقل عن تذبذبات أسعار النفط، قمنا بتحويل 65 مليار دولار من أرباح النفط إلى صندوق ثروة سيادي، وهو جهاز الاستثمارات الليبية يستغل الفرصة في الاستثمار بعد الانهيار الاقتصادي بسنة 2008، وخصوصا في الشركات، شريطة أن تقوم بتوريد بعض مواردها من خلال أعمالها، وعن طريق تأسيس شركات مشتركة في ليبيا، وتنفيذ عملية نقل المعرفة التقنية -على سبيل المثال- نحن نعمل على تنمية نطاق في الصناعات الدوائية، ومنذ بضعة أسابيع مضت، قمنا بافتتاح أول مركز تجميع لطائرات الهليكوبتر في ليبيا، والمركز بشراكة مع إيطاليين.

في سبيل توفير ظروف ملائمة لشراكات، خصوصاً مع دول الاتحاد الأوروبي، نقوم الآن بتنفيذ مناطق صناعية خاصة بالقرب من الموانئ والمطارات الليبية متمتعة بنظام ضرائبي خاص، وعمالة منخفضة الكلفة إلى جانب وفرة في الطاقة من النفط والغاز، إضافة إلى ذلك قمنا بتأسيس صندوق بقيمة 20 مليار دولار بغاية الحث على الاستثمار الصناعي المحلي، والسياحة والقطاع العقاري، والهدف توفير فرص عمل وتنويع الأساسات الإنتاجية في اقتصادنا وتوسيع القاعدة الضرائبية خارج نطاق النفط، معظم ذلك سيكون عن طريق الشراكات مع شركات محلية وأجنبية، عند استكمال المشاريع سيتم بيع الأسهم أو تدون بقوائم السوق المالي المحلي، ومرة أخرى سيكون المبدأ المعتمد هو نقل “العام” إلى “الخاص” في سبيل توفير الفرص لشعبنا.

بصفة عامة نحن نبذل أقصى الجهد في استراتيجية التنمية الاقتصادية، وننظر إلى ما وراء معادلات معيار “توافقيات واشنطن” في العقد الماضي، وكما لاحظ الكاتب “داني رودريك”: حتى وإن كان هناك اقتصاد، إلا أن هناك أيضا العديد من الوصفات للتنمية الاقتصادية.

سياسات النمو الاقتصادي يجب أن تفصل لكل بلد على حدة، المسألة ليست فقط في “تحرير” هذا، أو في “تخصيص” ذلك، مقاربة “توافقيات واشنطن” المعيارية لم تعتنِ أبدا بوجوب استهداف المعيقات الهامة للنمو الاقتصادي في كل دولة على حدة.

لذلك.. وبدلاً من خصخصة كافة المؤسسات العامة – كما حدث في روسيا- نقوم أولاً بإعادة هيكلة مؤسساتنا، ونعمل لوضع إدارة ذات كفاءة على رأسها، مهمتها تحقيق مخططات أعمال تنافسية، ثم نقوم بعدها بنقل الملكية من العام إلى الخاص، طبقا للنموذج الليبي في التخصيص، نحن نقوم بذلك عن طريق منح أسهم لموظفي الشركات، نحول الكوادر من موظفين للدولة إلى حملة أسهم في أكثر شركاتنا ربحية، مثل الحديد والصلب، وكذلك شركات “البقرة الحلوب” مثل الاتصالات والمرافق العامة، وهكذا يتم الحصول على دخل من السوق، وليس من المرتب.

المصرف المركزي قام بإطلاق برنامج خصخصة كمرحلة أولى من عملية الإصلاح عن طريق بيع حصص في اثنين من المصارف المحلية إلى مؤسسات أجنبية، كما قام بدمج غيرها مع بعضها البعض، وهم الآن على استعداد لمنح التراخيص لاستثمارات  في”الحقل الأخضر” أي الأكثر ربحية.

التحدي بالنسبة لنا كان في العثور على مناطق للإصلاح، يكون في إمكانها إحداث الأثر الأكبر، كانت البداية الفورية  في العمل على  زيادة القدر المتاح من رأس المال بالنسبة لأصحاب المبادرات (من القطاع الخاص)، صعوبة الحصول على رأس المال لهم، كانت من  أصعب العراقيل في سبيل التنمية الاقتصادية الناجحة؛ لأنها تحد من نمو المؤسسات الصغرى والمتوسطة.

 مجلس التطوير الاقتصادي في ليبيا عمل لتوليد مداخل جديدة عن طريق فتح سبع حاضنات في سنة واحدة، وقد لاقت المبادرة ترحيبا لكونها من أنجح برامج الحاضنات في البلدان العربية، ففي دراسة بجامعة البحرين عرض البرنامج (زاره أكثر من 8000) بالسنة الأولى، البرنامج أصدر 500 موافقة تقريبا على مخططات مشاريع أعمال، برأسمال مبدئي يبلغ 400 مليون دولار.

 قمنا كذلك باتخاذ الإجراء الفوري لتقليص الوقت المطلوب لتسجيل مشروع أعمال في ليبيا من شهرين إلى بضع ساعات فقط.

ولتسهيل تنمية الأعمال والسياحة قمت بالدعوة إلى إلغاء نظام منح تأشيرات الدخول المعيق، إرسال آلاف من الطلبة للدراسة في الخارج بعد عقود من العزلة، كان أولوية لنا في سبيل التنمية الاقتصادية.

استهدفنا مستويات أعلى من إرشادات صندوق النقد الدولي، الذي ينصح بإلغاء الدعم عن المواد الغذائية، نقوم الآن بتنفيذ برامج مشتركة مع العديد من الجامعات في العالم لمنح الدرجات العلمية، ونقوم الآن بتطوير منهج دراسي مع سنغافورا.

هذه بعض من المبادرات المهمة في عملية الإصلاح الاجتماعي والاقتصادي خلال الخمس سنوات الماضية.

أما عن الإصلاح السياسي، وبجهد في سبيل الفعالية والكرامة، فقمت بإعداد نموذج يستهدف تحقيق ديموقراطية مشارِكة، من خلال مواءمة ثلاثة أنواع من الديموقراطية: التداولية، المباشرة، التمثيلية، قمت بالدعوة إلى نموذج جوهري يعتمد على نمط مُحدث من نظام الاجتماع المباشر لسكان المدينة (تاون ميتنغ)، الذي يرسل مندوبين إلى غرفة التشريع الوطنية (مؤتمر الشعب العام) جوهر الديموقراطية المباشرة، تدعمه آليات مداولات مكثفة من قبل السكان، بواسطة المنتديات المفتوحة على شبكة الانترنيت (المداولة بخصوص مسودات التشريعات)، ووسائل برامج الإعلام، ومن خلال الاستبيانات التداولية ضمن برنامج نقوم الآن بإعداده بالتعاون مع جامعة “ستانفورد”، ومركز ستانفورد للاستبيان التداولي.

والاستبيان التداولي يمثل صيغة حديثة للفكرة المجددة لأول ديموقراطية قديمة في أثينا، حيث تقوم هيآت صغرى بالتداول حول قضايا رئيسة، قبل أن يتم التصويت عليها في المجلس الأكبر: أعضاء المجلس “الأثيني” وهو ما يعرف بمجلس الخمسمئة، يتم اختيارهم ديموقراطيا بالقرعة ذات الفرص المتساوية، والنظام يعرف قديما بضرب القداح، الدول الحديثة تستطيع أن تستخدم هذا الأسلوب في اختيار وحدات عشوائية من المجتمع، في سبيل تحقيق توازن وتقييم الآراء عن قضايا رئيسة، ويمكن بعدها نشر النتائج للتصويت من قبل العدد الأكبر من السكان.

قمنا بالفعل بتجربة برامج استرشادية نموذجية لاختبار نظام التداول عن طريق الإنترنت، وهو ما يمكن أن نسميه “أثينا على النت”.

قمنا باستخدام برمجيات جديدة وتقنيات اتصالات ومعلومات حديثة لإعلام المواطنين بمشاريع القوانين، وتمكينهم من الدخول لتحرير تعليقات معينة في هوامش المستندات، عندما يشاهدونها، والسماح لهم بإنشاء أجندات للنقاش السياسي في اجتماعات المدينة المحلية (تاون ميتنغ) المنظومة المعتمدة (ICT) مصممة لكي تمكن كافة المواطنين الليبيين حول العالم بالتداول حول القضايا الرئيسة بفعالية وسهولة.

أجريت العديد من التجارب على فكرة “الديموقراطية بالإنترنت” في عدة بلدان حول العالم، استخدام البرمجيات الجديدة والإنترنت سيمكن المواطنين كافة في دولة ما، من التداول رسميا على الشبكة، حول قضايا السياسات، من خلال اجتماعاتهم المصغرة (اجتماع سكان المدينة – تاون ميتنغ)، وهذا يحدث لأول مرة.

الديموقراطية التداولية والمباشرة تحتاج عندئذ لدعم مؤسسات تمثيلية معينة، خصوصا فيما يتعلق بمداولات النخبة، مثل اللجان التشريعية، ولكنني أعتقد بأنه في عالمنا الحديث، عندما يتمكن المواطنين كافة من لعب أدوار كناخبين ومشاركين في السوق وفي المنظمات المدنية، وستكون لدينا حاجة لمؤسسة تمثيلية أخرى: غرفة تشريعية ثانية، مثل “مجلس اللوردات” أو “مجلس الشيوخ” في الولايات المتحدة الأمريكية، ولكن مع المجتمع المدني وممثلين عن القطاع الخاص، وكذلك القادة الاجتماعيون المنتخبون في كامل البلاد، بصفتهم كأعضاء ناخبين يدلون بأصواتهم، وهذا يسمح لنا بتوفير أسلوب للتعبير وتجميع للمصالح الاجتماعية المختلفة، وهي عادة تجري بواسطة الأحزاب السياسية ذات المستوى القومي.

المواطنون كافة يجب أن يمثلوا في كل من الأدوار الثلاثة في عملية الحكم الحديثة، علينا أيضا إدخال ممثلين عن قطاع الأعمال الخاص، يتم انتخابهم من قبل منظمات الأعمال، مثل الغرف التجارية، والاتحادات المهنية، التي يمكن لها أن تحوز مقعدا على طاولة العملية السياسية، بهدف تقليص تأثير الشركات الكبرى “تحت الطاولة” من خلال اللوبيات الترويجية لمصالحها. وبنفس السياق، بدلاً من أن تقوم مجموعات المصالح الخاصة بإنفاق الملايين في وسائل الإعلام، لكي تروج لهذه المصالح.

يستوجب الأمر أن يقوم ممثلون منتخبون وبحق تصويت في الغرفة الثانية عن منظمات المجتمع المدني ذات الخبرة في مجالات البيئة والرعاية الصحية وحقوق الإنسان وما يتعلق بكبار السن والشباب والنساء.

مقاربة “الإدارة الجماعية” تختلف بشكل مفصلي عما كان سائدا في بداية القرن العشرين بأمريكا اللاتينية وجنوب أوروبا، أي ما يعرف بالكوربوراتيسم (corporatism)  – وهو تنظيم  للمجتمع في نطاق صناعات ومهن معينة، تقوم بالتمثيل السياسي، وتسيطر على الأنشطة في نطاقها وأفرادها والدولة هي التي  تشكل المجالس الاجتماعية والصناعية (أي غير منتخبة).

 مقاربتنا تشترك في العديد من الأهداف ذات العلاقة بالمجلس الاجتماعي والاقتصادي الهولندي، ولكنها تتجاوزه بإعطاء حق التصويت عوضا عن الاكتفاء بالدور الاستشاري.

النموذج الديموقراطي ثلاثي المكونات يجب أن يؤسس على مبدأ حكم القانون، علينا حيازة دستور يكون ظهيراً سانداً لديموقراطيتنا. نحتاج إلى قوانين ثابتة ومؤسسات ثابتة لتنمية اقتصادنا، وتوفير الفرص لليبييين لكي ينجحوا وينعموا بمستوى حياة جيدة.

حكم القانون يجب أن يسود قطاعات الدولة كافة ، بما في ذلك السيطرة المدنية على القوات المسلحة، نحن نحتاج إلى “حوكمة” ،تستند على الجدارة والاستحقاق والعملية القانونية الموضوعية، بدلا من صفة “الولاء” لأي شخص أو قبيلة أو إيديولوجية.

وأخيرا.. هناك عاملان أساسيان يدفعان للنجاح هما: البنية التحتية الحديثة والمصالحة الوطنية.

نحن ننفق قرابة المئتي مليار دولار على الإسكان والبنية التحتية، وهذا يجعل ليبيا الآن أكبر ورشة عمل في العالم.

عملية المصالحة الوطنية وصلت إلى قمتها الشهر الماضي، عندما أفرجت الدولة عن المئات من الإرهابيين السابقين، بل حتى قادة “المجموعة الإسلامية المقاتلة”، وقد سبقت ذلك خطوات عديدة: مثل عودة المئات من الليبيين من المنفى إلى وطنهم، التعويض عن الأملاك المصادرة لمن أساءت الدولة إليهم بطريقة غير عادلة، تعويض الذين انتهكت حقوقهم الإنسانية والإفراج عن آخر السجناء السياسيين.

التعذيب والاعتقال الجزافي بدون وجه من الحق أو القانون، أصبح تاريخا من الماضي في بلادنا.

أنا فخور جدا بسجلنا المتعلق بحقوق الإنسان والمصالحة الوطنية، لم يعد ذلك حلماً.

التحديات التي نواجهها مضنية.. ولكننا نتحرك ونسير في الوجهة الصحيحة.. ما زال أمامنا طريق طويل ..

شكرا جزيلا” .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى