تقاريرمحليمقالات

في وداع مبنى القيادة بباب العزيزية

بقلم/ رمضان عبد السلام

في وداع مبنى القيادة بباب العزيزية

مساء الأحد 24 إبريل 2011 قبيل المغرب و في توقيت و ظروف لا يُتوقع فيها ذلك دخل القائد إلى مبنى القيادة في باب العزيزية بشكل ظاهر و قد جاء من خارجه، و لم يدخل معه من مرافقيه الأمنيين إلّا المرحوم عزالدين الهنشيري   ..

في الخارج تُغطّي الغيوم السماء و تصمخ الطائرات الأذان، فهي لم تُغادر سماء المكان منذ بدء العدوان و تُكثّف تواجدها فيه يوماً بيوم.

كان مبنى القيادة هدف العدو الأول دون شك. الأمر مرهون بفرصة فقط  ..

لم يطل مكوثه في المكان .   قد تكون نيته أن يطيل البقاء في المكتبة ،  لكن المرحوم عزالدين كان يشدّد عليه للمغادرة ؛ فغادر راجلاً و  ظل داخل  المعسكر قبل أن يُغادره لاحقاً ..

بحلول الساعة الحادية عشر ليلاً  لم يبقى في  المبنى غير موظف الاستعلامات المناوب …

الساعة الثانية عشر ليلاً اتصل حرس بوابة المعسكر القريب من المبنى في حدود مائة متر بموظف الاستعلامات :

” يا ….. تعال يا غالي “المكرونة” واتية بنتعشوا قبل لا تلتم علينا الدوريّات…اليوم ما اعبيناش بيهم … انشغلنا   … راك اتعطل  ”

بين  خمس و عشر  دقائق بعد الساعة الثانية عشر كان جميع من في البوابة و موظف الاستعلامات يتناولون العشاءَ حين دوّى انفجار أول صاروخ من مجموعة كانت دقيقة التوجيه نحو قاعة الإجتماعات بالمبنى و قاعات الاستقبال و مكاتب القلم  و كذلك المكتبة التي تقع في وسط المبنى تماماً و قد اخترقها صاروخ من قبتها من حيث يصل إليها نور الشمس ..

كان العصف شديدا حد أنّ أبواب الخزائن الحديدية انفصلت عنها و تطايرت مثل الشظايا؛ و ساد المكان غبار اسمنت المبنى  …

بدعوة زملائه لمشاركتهم العشاء ،  نجى موظف الاستعلامات،  فعلى الطاولة التي كان يجلس وقعت إحدى الخزائن الحديدية من الدور العلوي بعد إن انهار السقف فسوّت مقعده و الطاولة  بالبلاط ..

في الطابق الأرضي من المبني كان مناوبٌ إداريٌ قد بدأ للتو “ورديته” الليلية  نجى هو الآخر و زحف بين ركام المبنى و استطاع أن يصل إلى الخارج و فوجيء به جنود البوابة  تائهاً وسط الغبار الكثيف الذي عم المكان. كانت نجاة الإثنين آية …

مبنى القيادة الذي دُمّر كان في الأصل بيت ضيافة في معسكر باب العزيزية.  بين من استضافهم  المرحوم لحبيب بورقيبة الذي لم يجد بعد عودته إلى تونس ما يشغلها  به  غير إتهام مضيفيه بالتنصت عليه في هذا المكان  !

لم يتبق من المبنى إلا  ملحقاته و هي مكتب صغير قرب البوابة و قاعة اجتماعات الرؤساء بجواره التي كان آخر ما شهدته  هو لقاء يوم 10  من ذات الشهر  للجنة  الرؤساء الأفارقة المكلفة من الاتحاد الافريقي .  في اليومين  التاليين  تحوّلت كل هذه الملحقات   إلى ركام بفعل أكثر من صاروخ استهدفها في نفس التوقيت ..

كانت المكتبة من نفائس المبنى،  ففيها مراجع مهمة و كتب قيّمة.  بين محتوياتها نسخة من ميثاق الأمم المتحدة يضمها كتيب صغير يعود إلى مكتبة اليونسكو في فزّان،  ترك عليها الزمن بصماته،  و صاحبها أثره..

في المكتبة كان رحمه الله يجري  اللقاءات الصحفية و المقابلات الاذاعية و منها أيضاً حاضر  عبر الدوائر المغلقة في جامعات امريكية و أوروبية و يابانية و إنجليزية و روسية و عربية و غيرها، و لم يستقبل ضيفاً أو يزور بلداً او يُثير امراً للنقاش العام او خكاباً إلّا و استعان بما تحتويه تلك المكتبة من مراجع ، و قد  أشار إليها  الصحفي المرحوم سامي حدّاد بعد ان قابله فيها  عام 2007 :

”  في احد الثكنات العسكرية بطرابلس في انتظار العقيد ، تجولت بالمكتبة أردت أن أرى ماذا يقرأ  وصلت إلى آخر الصفوف وبين الرفوف علّمت أحد الكتب و هو كتاب حول الحرب العالمية الثانية عنوانه: «صعود وسقوط الرايخ الثالث» .  حفظت إسم الكتاب؛ ولكن ارجعته في غير مكانه ..

اجريت اللقاء مع العقيد  وجلست بعده  لبعض دقائق  سألته عن حرب عالمية ثالثة تلوح في الأُفق  فرد عليّ بجملة:  ” الحرب العالمية الثالثة إن وقعت فلن يعلن عنها إلا بعد إنتهائها”، قلت له  نفس جملتك قالها أحد الكتاب الألمان عندما أيقنوا موت هتلر:  ” إن ادلوف قادهم لحرب عالمية ثانية ” فقال لي: إسم الكاتب وليم شايرر وهو أميركي وليس الماني فقلت له بمزحة: أنا “لم اقرأ هذا الكتاب هل إستعيره منك؟ ” ضحك وقال “يمكنك …  ”

تكلم مع أحد الحرّاس فقال له: فيه كتاب كذا تجده هناك في ذاك الصف في الرف الأوسط !

و هو ما كنت أود أن أصل إليه؛  هل هذه الكتب وضعت للزينة في مكتبة العقيد، أو هي تعبر عن خلفيه وإلمام هذا الرجل حقا. “

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى