اقتصادمحليمقالات

ملاحظات حول التقرير السنوي لديوان المحاسبة عن 2021

بقلم// محمد أحمد

ملاحظات حول التقرير السنوي لديوان المحاسبة عن 2021

طبعا لا يمكن لشخص عاقل أن يقيم تقرير بهذه الضخامة بعد عدة أيام من نشره، فالتقرير لا يحتوي فقط أرقام محاسبية أو بيانات مالية، بل يتعداه بكثير إلى ليحتوي تحليلات مباشرة وغير مباشرة منها ما يتصل بالمالية وأخرى تتصل بالهيكلية والإجراءات، وضمن هذه الثنايا فأنه يحمل رسائل سياسية علنية أحيانا ومبطنة في أحيان أكثر قد تؤثر في مبدأ الحيادية التي يجب أن يتحلى بها. 

في تعليقاتي على التقارير السابقة وقبل الكثيرين أعلنت بصراحة أنني لا أرى أنه من المناسب نشر التقرير عن ديوان المحاسبة مباشرة للعامة قبل أن يتم إبلاغ السلطة التشريعية به ومطالبة الأجهزة التنفيذية بالرد على محتوياته، بحيث يتم نشر التقرير مع الردود ليستطيع قارئ التقرير تكوين صورة محايدة عنما ورد به من بيانات. 

هذه المرة سمعت أن مسؤولي الديوان قد أشاروا أنهم أرسلوا التقرير إلى البرلمان قبل نشره وهي خطوة نصف صحيحة حيث لم يتاح للأجهزة التنفيذية الرد على التقصير الوارد في التقرير رسميا ونشرهما بصورة متوازية. التقرير يخص سنة 2021 لذا فأن الأجهزة التنفيذية الحالية هي المختصة بالرد عليه أي قبل حدوث أي ازدواجية في السلطة التنفيذية.

وبغض النظر عن الصخب الشعبي الدائر حول التقرير ونتائجه فأن أهم نتيجة في رأيي على مثل هذا التقرير هي فقدان الشرعية في إنفاق المال العام وهذا سيجلب انعكاسات خطيرة على الدولة الليبية. 

وبعكس ما قد يراه الكثير من عدم وجود تأثير للتقارير المتوالية لديوان المحاسبة على الدولة الليبية ألا أني أخالفهم النظرة. 

تقارير ديوان المحاسبة سحبت البساط من تحت شرعية ما سمي يوما بحكومة الوفاق الوطني وضربت في مقتل ما سمي “الترتيبات المالية المؤقتة” التي شرع لها جزء من الدول الوصية على ليبيا كبديل لقانون الميزانية السنوي والذي يعطي شرعية للحكومة في صرف المال العام. 

كانت تقارير الديوان سلاحا أخلاقيا ضد الهدر الغالب والفساد الذي صاحب إجراءات الانفاق الحكومي والذي أجبر النخبة السياسية الوفاقية أما على الاستقالة أو الانسحاب من المشهد السياسي.  صحيح أن المحاسبة نفسها لم تأخذ طريقا، ولكن الآليات الحكومية كلها توقفت وأصبح من الصعب جدا على المجتمع الدولي تبرير تمويل الحكم في ليبيا بالاستمرار في شراء النفط من الدولة الليبية.

التقرير الحالي يؤكد اليوم أن شرعية “الانفاق الحكومي” بدون اعتماد ميزانية للصرف هو ضرب من العبث، وهذا يؤدي إلى نتيجة واحدة لا غير وهي كيفية التبرير الأخلاقي من المجتمع الدولي للاستمرار في شراء النفط الليبي. 

وبالرغم من جهود السفارة الامريكية “كدولة وصية” الواضحة في هذا المضمار بالتنبيه على الأجهزة التنفيذية الليبية بالإفصاح والشفافية عن مصارف المال العام ألا أن عدم الرضا كان واضحا في البيانات المتكررة الصادرة عنها وعن السفير نفسه، وبصدور تقرير مثل هذا فأنه بالتأكيد سيضع الدولة الامريكية أمام مأزق أخلاقي في استمرار دعمها للمنهجية الحالية في أنفاق المال العام في ليبيا.

الاخطاء في التقرير كثيرة وقد كتبت عنها في مقالات سابقة وقد ركزت على ما يتم تناوله في قطاع النفط لأن ذلك ما أعرفه، وسأتطرق هنا إلى بعض العثرات التي صادفتني في التقرير الحالي.  بداية لا بد لي أن أثمن عاليا الجهد الكبير الذي يقوم به أعضاء الديوان في تجميع وتحليل البيانات ووضعها في سياقها بالتقرير وأشهد لهم بالقدرة والكفاءة المهنية.  

هذا لا يعفي من وجود رسائل سياسية معينة يتم تمريرها عبر التقرير وهي واضحة جدا سواء من ناحية التركيز على بعض الأرقام وطريقة عرضها مع التشديد على جهات واهمال جهات أخرى.  وقد سمعت التبريرات التلفزيونية التي تفضل بها أحد أعضاء الديوان المحترمين عن هذه القضية، ولكنها في الحقيقة لم تكن مقنعة.  

دعوني أعلق على بعض البيانات النفطية التي تم تناولها في التقرير.

أولا: مقارنة المستهدف في الإنتاج بالإنتاج الفعلي (الصفحة 141)

استعرض التقرير في عدة جداول المستهدف بالإنتاج والإنتاج الفعلي، واعتبر أن النقص في الإنتاج (فاقد).  في الحقيقة لم أستطيع تبين الهدف من هذه المقارنة بداية من منهجية تحديد المستهدف وكيفية تقرير الإنتاج الفعلي.  يمكن من ناحية تشغيلية أو من ناحية وضع الميزانية وضع تصور عن المستهدف من الإنتاج ألا أن مقارنته بالفعلي يستتبع تحديد الفاقد المالي وليس الفاقد في الإنتاج. والفاقد المالي هنا هو مقارنة حجم الانفاق للوصول إلى المستهدف بما تم الوصول إليه فعلا بالقيمة الدولارية.  مثلا يمكن أن الانفاق كان صغيرا مقارنة بالمستهدف وهو وما قاد إلى عدم الوصول للإنتاج المخطط له وفي هذه الحالة لا يمكن أن نطلق على الفرق (فاقد) بسبب عدم الصرف أساسا على الإنتاج.  هذا التحليل متبع في جميع الشركات المشغلة بهذا المنطق التشغيلي والحسابي، ولكن للتقرير رأي آخر. ربما هذا قد يعود جزئيا إلى أن مبلغ الصادرات لم يتم فيه تضمين قيمة الشحنات التي تم استعمالها في الدفع لاستيراد المحروقات (والتي اسماها التقرير بالمقايضة فيما بعد) ألا أن هذه الموازنة لم تتم في هذا الجدول والتي لا زلت أظن أنها لا تصل إلى وضعية التوازن.

ثانيا: الصادرات من النفط الخام والبتروكيماويات والمنتجات النفطية من 1/1 إلى 31/12/2021 (الصفحة 142)

يقول التقرير أن الصادرات من النفط الخام في سنة 2021 بلغت 367,471,415 برميل، بينما في جدول الإنتاج فأن الإنتاج الفعلي لسنة 2021 يبلغ 1,206,771 برميل يوميا، هذا يعني 440,471,415 برميل في السنة، إذا ما أنقصنا كمية 200 ألف برميل يوميا تتجه للاستهلاك المحلي فأن هذا سيعطينا متاح للتصدير 376,471,415 برميل عن السنة وهذا رقم يزيد عن رقم الصادرات المذكور بالتقرير بكمية 20,571,902 برميل أو بما يعادل 56,854 برميل يوميا وهو رقم أكبر مما يمكن اعتباره هامش لعمليات التصدير.

يشير التقرير أن صادرات الغاز (وهنا لم يعرف أن كان غاز طبيعي أو غاز مسال) هو 17,153,540 وحدة حرارية. م (وهو معامل غير معروف ويمكن القصد مليون وحدة حرارة بريطانية mmbtu) أما القيمة فهي 89,868,313 دولار أمريكي.  هذا الرقم صغير جدا وهو يعادل قيمة صادرات عدة أيام فقط من الغاز الطبيعي، وللمقارنة فأن وكالة رويترز تشير أن صادرات ليبيا من الغاز الطبيعي إلى إيطاليا عبر خط غرين ستريم تصل في سنة 2021 إلى 913,870,080 مليون وحدة حرارة بريطانية وتقدر قيمتها التعاقدية بمبلغ 730 مليون دولار.

ثالثا: الإيرادات النفطية (الصفحة 144)

أشار التقرير إلى “ديون مشكوك في تحصيلها” لسنوات سابقة عن 2010 قيمتها 1,320,574,295 دولار وعرض جدولا لها ألا أن كل تلك الديون كانت لسنوات بدءا من 2011 إلى 2021.  السؤال هنا ما هو المعيار الذي أتخذه الديوان في اعتبار هذه الديون “مشكوك في تحصيلها” ولماذا يتم عرضها؟

كما يلاحظ أن معظم الديون الواردة في الجدول لها علاقة بشركات تعمل في تزويد السوق المحلي مثل ليركو، قرين ستريم، ليبيا أويل، وهذا مثير للاستغراب حيث أن هذه الشركات لا تمتلك عقود بيع وشراء موقعة مع المؤسسة، ومن هنا وجب التساؤل حول كيفية اعتبار هذه المبالغ فواتير غير محصلة.

رابعا: المحروقات (صفحة 147)

بداية لا بد من ملاحظة التحسن الكبير الذي ورد في هذا التقرير مقارنة بالتقارير السابقة فيما يخص تناوله موضوع المحروقات.  الاعتراض الوحيد لدي هنا هو الخلط بين موضوع الدعم وموضوع الانفاق العام على المحروقات.  الديوان ليس من واجبه مناقشة موضوع الدعم ولا تقديره حيث إن ما تم عرضه يشير خطأ إلى اتجاهات مسبقة الحكم عليها وتجاهل حقائق معينة.  مثلا أن زيادة قيمة الدعم أتت عبر قناتين الأولى هي تخفيض قيمة الدينار الليبي تجاه الدولار وهو ما رفع قيمة الواردات من المحروقات نظريا.  أما القناة الأخرى فأن الدعم أرتفع نتيجة ارتفاع أسعار المنتجات النفطية في السوق الدولية مع استمرار تعطل المصفاة الرئيسية في ليبيا.  وفي جميع الأحوال فأن القيمة التي أشار إليها الديوان كفاتورة للمحروقات وهي نحو 7 مليار دولار هي القيمة المقدرة للاستهلاك في الاقتصاد الليبي للحاجة من الطاقة وفقا للأسعار العالمية في 2021 وبالتأكيد ستزداد في 2022 نظرا لارتفاع السعر وليس لارتفاع الاستهلاك.  المسألة هنا هي من يدفع هذه الفاتورة الدولة أم المستهلك؟ لا يجب على الاطلاق التفكير بأن إلغاء الدعم العيني سيخفض هذه الفاتورة، بل سينتقل عبأ الدفع على المستهلك.  وبينما استهلك التقرير الكثير من الوقت والتحليل في ظاهرة الدعم ألا أنها في الحقيقة خارج اختصاصاته تماما وتقع المسئولية فيها على الأجهزة التنفيذية في الدولة لتصميم نموذج توازني لموضوع الدعم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى